الإقامة التي تقطع رخص السفر

رخص المسافر:

شرع الله أحكامًا خاصة بالسفر توسعة منه ورخصة لعباده ورفعًا للحرج والمشقة التي تعتري المسافر غالبًا، ومن تلك الأحكام:

• المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن.

• استحباب قصر الظهر والعصر والعشاء وصلاتها ركعتين إذا لم يصلها مع إمام متم..

• جواز الجمع بين الظهر والعصر أو المغرب والعشاء ويتأكد ذلك عندما يجد به السير أثناء انتقالاته في السفر.

• جواز الفطر في رمضان وقضاؤه في أيام أُخَر.

وغير ذلك من الأحكام المعروفة في مظانها، ولكن هل تستمر تلك الأحكام بعد وصول المسافر إلى وجهته التي قصدها؟

ما الإقامة التي تقطع حكم السفر؟

من انتقل إلى بلد ليستوطن بها ويعيش فيها ويقيم مطلقًا بدون نية عودة إلى بلده، فإن سفره قد انتهى بمجرد وصوله إلى البلد المقصود إجماعًا.

أما من سافر إلى بلد للسياحة أو لعمل ما، وسيمكث فيها فترة من الزمن وفي نيته الرجوع إلى أهله، فإنه لا يخلو أن يكون أحد صنفين:

1- من أقام ينتظر قضاء حاجة وليس في نيته مدة معينة:

كمن يقيم ببلد حتى ينهي مهمته أو عمله، أو ينال علاجًا قد يطول أو يقصر، أو حتى يفك عنه وثاقه وحبسه، أو حتى يسمح له بالرجوع، و لا يدري متى يكون ذلك غدًا، أو بعد أسبوع، أو بعد سنة.

فحكم هذا أنه يترخص بأحكام السفر حتى وإن طالت المدة، وهذا هو رأي جمهور أهل العلم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد أقوال الشافعي.

دل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وغزوة تبوك، وفعل ذلك عدد من الصحابة أثناء غزوهم، بل قال الترمذي رحمه الله في سننه: " أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون" (2/431).

واختلفوا إن ظن أن مهمته أو علاجه أو منعه من السفر قد يستغرق أيام الإقامة التي تقطع السفر ما دام ينتظر السفر كل يوم.

والراجح من أقوال أهل العلم أن حكم الترخص لا ينقطع حتى لو ظن أن مدة انقضاء الحاجة قد تطول إن كان لا يدري متى تنقضي.

 2- من أقام في بلد إقامة محددة:

كمن يقيم لقضاء حاجة مؤقتة بزمن, كسياحة محددة المدة مسبقاً, أو عمل محدد بأيام أو أشهر أو سنوات, أو للدراسة الجامعية والدراسات العليا, أو لحضور دورة تدريبية محددة بزمان واضح, ونحو ذلك.

 • وقد ذهب جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أن الترخص بأحكام السفر ينقطع إن زادت إقامته عن عدد من الأيام -اختلفوا في تحديدها- ويكون له أحكام المقيم وينقطع ترخصه بالسفر.

• وذهب شيخ الإسلام ابن تيميـة وتلميذه ابن القيم وبعض أهل العلم المعاصرين إلى أنه يترخص بأحكام المسافر مطلقًا وإن طال بقاؤه ما لم ينو الاستيطان بذلك البلد وعدم الرجوع إلى بلده الأول (مجموع الفتاوى 24/136, زاد المعاد 3/491).

 والراجح هو القول الأول بتحديد الأيام الموافق لرأي جماهير أهل العلم لعدد من الأمور:

1- قول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}:

فلما شرع الله لعباده قصر الصلاة في السفر كمًا، وقصر الصلاة عند الخوف من العدو هيئة، قال تعليقًا على ذلك: }فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ{ أي إذا زال خوفكم فأقيموا الصلاة بتمام هيئتها، وإذا انتهى سفركم فأقيموا الصلاة بتمام ركعاتها.

وذلك أنه سبق هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} فقيد القصر بالضرب في الأرض، فمفهوم ذلك عدم جوازه لمن توقف ضربه، وهذا المفهوم قد نصت عليه هذه الآية وهي قوله تعالى بعد آيتين: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}.

فهذه الآية قد أوجبت على المؤمنين إقامة الصلاة في حال الاطمئنان، وهو سكون البدن عن الحركة، والقلب عن الخوف.

قال ابن عبد البر: "والأصل أن كل من أقام فقد لزمه الإتمام إلا أن يخص ذلك سنة أو إجماع, وقد نصت السنة ذلك المقدار فمن زاد عليه لزمه الإتمام" (الاستذكار 2/247).

2- نهي عمر رضي الله عنه اليهود أن يمكثوا بالمدينة للتجارة فوق ثلاث، فقد أخرج البيهقي عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عمر: "ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة إقامة ثلاث ليال يتسوقون بها ويقضون حوائجهم ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث" (سنن البيهقي 5454).

لأنهم بمكثهم فيها أكثر من ثلاثة أيام يشبهون المقيم, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم ونفيهم منها.

3- فتاوى الصحابة القائلة بالتحديد ومن ذلك:

• ما ثبت عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: "أصلي صلاة مسافر ما لم أجمع مكثًا، وإن حبسني ذلك اثنتي عشرة ليلة" (الموطأ 498).

• روى الإمام البخاري عن ابن عباس أنه قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا" (1080).

وأما ما روي عن الصحابة من ترخصهم بأحكام السفر في مدة طويلة في الغزو ونحو ذلك فكما قال ابن عبد البر: "مَحْمَلُ هذه الأحاديث عندنا على من لا نية له في الإقامة لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدد المتقاربة، وإنما ذلك مثل أن يقول أخرج اليوم أخرج غدا، وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة" (التمهيد 11/184).

فهي آثار دالة على الصنف الأول -من أقام ينتظر قضاء حاجة غير محددة بزمن- ولا دلالة فيها على ما نحن بصدده.

4- ثم إن رأي الجمهور لا يعلم له مخالف في العصور الأولى بل لمَّا ذكر هذا القول إسحاق ابن راهويه واحتج له اعتذر عن القول به لما أجمع عليه علماء الأمصار من تحديد الإقامة بزمن.

ففي الأوسط لابن المنذر (4/357-361): "وفيه قول عاشر، ذكره إسحاق بن راهويه، قال: وقد قال آخرون: وهم الأقلون من أهل العلم: صلاة المسافر ما لم ترجع إلى أهلك، إلا أن تقيم ببلدة لك بها أهل ومال فإنها تكون كوطنك..", ثم ساق آثارًا يمكن الاستدلال بها على القول ثم قال: "احتج إسحاق لهذه الأخبار للقول الذي حكاه القول العاشر واعتذر في تخلفه عن القول به؛ لما أجمع عليه علماء الأمصار على توقيت وقتوه فيما بينهم، فكان مما أجمعوا عليه توقيت أقل من عشرين ليلة".

المدة التي تقطع حكم السفر:

اختلف أهل العلم في تحديد المدة التي إن كان في نيته البقاء فيها ينقطع ترخصه بالسفر على أقوال أشهرها:

1- إن مكث أربعة أيام أتم وإن مكث ثلاثة قصر، وهو مذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة اختارها كثير من أصحابه, واختلفوا هل يحسب يوم الدخول والخروج أو لا على قولين (مواهب الجليل 2/149-150, مغني المحتاج 1/519, الإنصاف 2/329).

2- إن مكث أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن كان أقل قصر، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (المغني 2/212, الإنصاف 2/329) وهو قريب من سابقه.

3- إن نوى المكث خمسة عشر يومًا أتم، وإن كان أقل قصر، وهو مذهب الحنفية (رد المحتار 2/125).

4- إن نوى المكث أكثر من تسعة عشر يومًا أتم الصلاة وإلا قصر وهو قول ابن عباس رضي الله عنه بناء على مكث النبي صلى الله عليه وسلم قاصرًا للصلاة في فتح مكة (البخاري 4048).

وكل قول في التحديد له وجهته ودليله المعتبر، والخلاف بين أهل العلم قوي، ولكن الأحوط ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أن من كانت إقامته ببلد واحد 4 أيام فأكثر انقطع ترخصه بأحكام السفر، ويدل على ذلك:

• نهي النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين أن يمكثوا بمكة فوق ثلاث:

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر" (البخاري 3933), وفي رواية مسلم (1352): "كأنه يقول لا يزيد".

قال ابن حجر: "وفقه هذا الحديث: أن الإقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، وبهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر" (فتح الباري 7/267).

• ووافقه نهي عمر عن مكث تجار اليهود والنصارى بالمدينة فوق ثلاث (سنن البيهقي 5454).

قال الشافعي رحمه الله: "فأشبه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقام المهاجـر ثلاثًا حد مقام السفر وما جاوزه كان مقام الإقامة... وأجلى عمر رضي الله تعالى عنه أهل الذمة من الحجاز وضرب لمن يقدم منهم تاجرًا مقام ثلاث, فأشبه ما وصفت من السنة" (الأم 1/215).

• وهي أكثر مدة ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي فيها يقصر وقد علمها ونواها قبل ذلك، وهو مكثه في مكة لما قدم إلى الحج فقد قدم مكة في اليوم الرابع فصلى بها الظهر وأقام بها الخامس والسادس والسابع وخرج منها في الثامن يوم التروية إلى منى فصلى بها الظهر.

قال النووي: "ففيه دليل على أن المسافر إذا نوى إقامة دون أربعة أيام سوى يومي الدخول والخروج يقصر وأن الثلاثة ليست إقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام هو والمهاجرون ثلاثًا بمكة فدل على أن الثلاثة ليست إقامة شرعية" (شرح مسلم 5/203).