مسافة السفر التي تثبت بها الأحكام

ينبغي للمسافر معرفة مسافة السفر التي تتعلق به الأحكام الشرعية في القصر والفطر ونحو ذلك، وقد اختلف العلماء في تحديد ضابط السفر الذي يثبت فيه الترخص على أربعة أنحاء:

 1- التحديد بالأيام

وفيه مسلكان:

• التحديد بمسيرة ثلاثة أيام بسير الإبل ومشي الأقدام سيراً معتاداً, والمقصود مسافة يُسار فيها هذا السير, فلو أسرع فيها ووصل في يومين قصر, وهو مذهب الحنفية. (بدائع الصنائع 1/93, الدر المختار 2/123).

لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم (مسلم 276) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليها, ولن يتصور أن يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها ومدة السفر أقل من هذه المدة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها محرم (البخاري 1036,مسلم 1338 واللفظ له).

واختلفوا في تحديد المسافة التي تقطع في الأيام الثلاثة بالسير المعتاد قديمًا ما بين 83 كيلومتر  أو 100 كيلو متر وأعلى ما قيل في تقديرها: 120 كيلومتر تقريبًا (وانظر: بدائع الصنائع 1/93، تبيين الحقائق 1/210، البناية 3/4).

• التحديد بمسيرة يوم تام, وهو مذهب الأوزاعي وابن المنذر. (الأوسط لابن المنذر 4/350).

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم (البخاري 1038,مسلم 1339 واللفظ له).

2- التحديد باللغة

فيقصُر في أي ارتحال ُأطلِق عليه اسم السفر سواءً كان طويلاً أو قصيرًا, وهو مذهب الظاهرية، وقول ابن قدامة من الحنابلة.

لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, فأطلق الضرب في الأرض ولم يقيد, ثم إنه لم يرد نص في تحديد المسافة فيبقى على أصل اللغة, والسفر في اللغة يطلق -بحسب رأي الظاهرية- على ما زاد عن الميل, فيقصر فيما زاد على الميل, ولا يقصر دونه. (المحلى 3/212-215).

قال ابن قدامة: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف ولظاهر القرآن؛ لأن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض، لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}. وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية. فبقي ظاهر الآية متناولاً كل ضرب في الأرض.

.. والثاني: أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه (المغني 2/190).

  3- التحديد بالعرف

فيقصر فيما يسميه الناس سفرًا, وهو قول ابن تيمية رحمه الله، وفيه إعادة لقول الظاهرية بضابط آخر.

قال ابن تيمية: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم (مجموع الفتاوى (24/40-43).

وقال: ولهذا قال طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم أنه يقصر في السفر الطويل والقصير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت للقصر مسافة ولا وقتًا، وقد قصر خلفه أهل مكة بعرفة ومزدلفة,وهذا قول كثير من السلف والخلف وهو أصح الأقوال في الدليل. ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يعد في العرف سفرًا (مجموع الفتاوى 24/15).

4- التحديد بمسافة محددة

وهو التقدير بأربعة برد تقريبًا, وذهب إليه الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة. (مواهب الجليل 2/140, نهاية المحتاج 2/257, كشاف القناع 1/504).

 والبُرُد جمع بريد وهو مسيرة نصف يوم تقريباً.

ويدل على ذلك آثار الصحابة ومنها:

ما روى عطاء بن أبي رباح أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرد فما فوق ذلك. (البيهقي 5603,وقال النووي في المجموع 4/328: رواه البيهقي بإسناد صحيح وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصفة جزم فيقتضي صحته عنده كما قدمناه مرات).

وعن عطاء قال: سئل ابن عباس: أأقصر الصلاة إلى عرفة؟ فقال: لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف (البيهقي 5605,, والمسافة إلى هذه الأماكن أربعة برد تقريبًا.

وهذه المسافة مقدرة بالقياسات الحديثة ما بين 81 إلى 88 كيلو متر تقريبًا (انظر: الشرح الممتع 6/342، الفقه الإسلامي وأدلته 2/477, منحة العلام 3/465).

 
وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم ويدل على ذلك أمور:

ثبوت التحديد الصريح من فعل الصحابة وقولهم ولا يعلم لهم مخالف.

أن التحديد بالعرف غير منضبط ويختلف الناس في تقديره اختلافاً بيناً، ولا يجعل العرف ضابطاً إلا إذا كان منضبطًا، والشرع يعلق الأحكام على الأوصاف الظاهرة المنضبطة لا ما يثير الشكوك والتنازع (انظر: الفروق2/282-283).

أن التحديد بزمن السفر ليس عليه دليل, وما ورد في ذلك في المسح على الخفين هو ضابط للمسح بالنسبة للمسافر,ولا علاقة له بتحديد مسافة السفر.

 • أن التحديد باللغة وأن كل انتقال يصح فيه الترخص مخالف لآثار الصحابة, وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه: أأقصر إلى عرفة؟ قال: لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف فدل على أن المسافة معتبرة لديهم ليتمكن من الترخص بالأحكام.

أما ما ورد في سفر المرأة بلا محرم، فقد اختلفت الروايات فيه بين يوم وليلة ويومان وثلاثة أيام بحسب الموقف المسئول عنه,وليس تحديداً دقيقاً لضابط السفر (انظر: فتح الباري 4/75).

المسافة تقريب وليست تحديداً دقيقاً:

ليست المسافة محددة بطريقة دقيقة بالأمتار، بل في أمثال هذه المسافة وما قاربها وما فوقها يجوز للمسافر القصر، ولا يجوز له القصر في أقل منها .

وقد نص كثير من أهل العلم على أن المسافة تقريب لا تحديد، وهو مذهب المالكية والحنابلة ووجه عند الشافعية.

فقال المالكية: إن قصر فيما دون الثمانية والأربعين فلا إعادة عليه فيما بينه وبين الأربعين، وإن قصر فيما دون الأربعين إلى ستة وثلاثين فقيل يعيد في الوقت، وقيل لا إعادة عليه، وإن قصر فيما دون ستة وثلاثين أعاد في الوقت وبعده (مواهب الجليل 2/140, المقدمات الممهدات 1/213).

وقال المرداوي: الصحيح من المذهب أن مقدار المسافة: تقريب لا تحديد، قال في الفروع: وظاهر كلامهم تقريب. وهو أولى, قلت: هذا مما لا يشك فيه (الإنصاف 2/318).

تذكر

  1. اختلف أهل العلم في تحديد مسافة السفر التي تتعلق بها الأحكام الشرعية .
  2. ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المسافة المعتبرة للسفر هي  أربعة برد.
  3. وقدر البرد الأربعة يساوي ما بين 81-88 كيلومتر  تقريباً.
  4. لم يعلق الشرع هذه الأحكام على مسافة محددة بدقة شديدة وإنما من باب التقدير والتقريب.