تستثار أسئلة ومقارنات كثيرة في ذهن المبتعث بمجرد وصوله إلى تلك البلاد، وربما قبل ذلك بين ما يراه في البلاد المتقدمة من رقي وحضارة وتمدن ونظام في مقابل ما يعرفه في بلاد المسلمين من مظاهر الفوضى وأمارات البعد عن ميدان الحضارة والتقدم , وقد يرى أن البون شاسع والهوة لا يمكن ردمها.
والحقيقة أن هذه النظرة ينبغي أن تكون وقوده للاجتهاد في دراسته وتحصيله للمشاركة في نهضة أمته وبناء بلده، وأن لا يكون نتيجة ذلك مجرد تفريغ آني فقط يخرج على شكل نقد للأوضاع وشتم للتخلف والفوضى.. ولأن توقد شمعة خير لك من أن تلعن الظلام ألف مرة.
ثم ينبغي أن لا يغيب عن باله لحظة في خضم ما يراه ويعايشه وأثناء مطارحاته الفكرية مع نفسه وزملائه أنه يملك أعظم أسباب العزة والرقي إن استمسك به وهو هذا الدين العظيم: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وهذه الآية والتوجيه القرآني لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام حال نصرهم وقوتهم، لأن المسلم حينها يعرف مكانته وعزته وإيمانه.. وإنما نزل لما حصلت الهزيمة في أحد, واهتزت بعض النفوس مما رأته من آثار تلك الهزيمة.
فلنتذكر قدر نعمة الله عليك بهذا الدين ولا نغفل عند النظر لحال الأمة وما تعيشه من مظاهر التخلف أنها مرحلة من المراحل {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} , فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافاً , فمن عمل على مقومات النهضة حصل له منها بقدر عمله واجتهاده سواء أكان مؤمناً أم كافراً، ومن ركن إلى الدعة والكسل والترف ومجد سابق فسينال جزاء ذلك فإذا أكثرنا التساؤل والتشكي لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون ؟ فالإجابة يسيرة {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}.
وإذا كان شبابنا يسافرون اليوم لأخذ العلوم من دول الكفر ففي أزمان متطاولة كان الأمر على عكس ذلك تماماً كما ستجده في الرسالة القادمة.
ثم إن اعتزاز المسلم بتاريخه وحضارته عبر القرون هو ملهمه لإعادة تلك الحضارة إلى نصابها فتجمع الحضارة حينها بين الرقي والتطور الدنيوي ومفاهيم عدل شريعة الإسلام وسماحته وأخلاقياته.