أدب الخلاف في المسائل الفقهية

 

من الطبيعي أن يختلف الناس في المسائل الشرعية بسبب اختلاف طريقة نظرهم للأدلة إن كانوا من أهل العلم  أو بسبب اختلاف العلماء والمجتهدين الذين قلدوهم إن كانوا من غير المختصين ومن يشرع في حقهم التقليد ، ولا بد هنا من التأكيد على أمور:

هل كل مجتهد مصيب؟

 لكل مجتهد نصيب من الأجر كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد. (البخاري 6919، مسلم 4584)

فإذا أدى المسلم ما عليه للوصول إلى الحق عبر النظر في الأدلة إن كان قادرًا ممتلكًا للأدوات العلمية ، أو بتقليد الأوثق والأعلم عنده إن كان عاميًا فهو دائر بين الأجرين إن أصاب الحق في اجتهاده أو الأجر الواحد إن اجتهد فأخطأ ، فالحق واحد لا يتعدد كما هو مذهب الجمهور بدلالة الحديث, فقد أثبت الأجر لكل من اجتهد ولكنه جعل المصيب واحدًا .

ومع هذا فإن قيل: كل مجتهد مصيب بمعنى إنه معذور ومأجور، فهو صحيح بهذا الاعتبار, فالمجتهد المخطئ هو مصيب من جهة ما فعل من الاجتهاد, لكنه قد يصيب حكم الله فينال الأجرين, وقد يخطئه فينال الأجر الواحد.إلا أنه مع ذلك يجب عدم التثريب والحدة في النقاش في الخلاف الفقهي الاجتهادي المبني على النظر، واعتماد الدليل .

كيف تعامل السلف مع الخلاف ؟

قال الإمام أحمد: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا. (سير أعلام النبلاء 11/371 )

وقال الإمام يحيى بن سعيد: أهل العلم أهل توسعة ، وما برح المفتون يختلفون ، فيحلل هذا ويحرم هذا ، فلا يعيب هذا على هذا ولا هذا على هذا (جامع بيان العلم وفضله 2/80)

قال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة ؟ (سير أعلام النبلاء 19/9).

قال أبو حنيفة: هذا الذي نحن فيه رأي، لا نجبر أحدًا عليه، ولا نقول يجب على أحد قبوله بكراهة، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به. (الانتقاء 258)

وهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة - مذهبه أن أي نجس خرج من البدن إذا تفاحش فهو ناقض للوضوء خلافًا للإمام مالك الذي يقول الناقض إنما هو الخارج من أحد السبيلين فقط، وأن ما سواه من الأنجاس لا ينقض الوضوء- فقرر ذلك يومًا في مجلسه فقال له رجل: أرأيت إن كان الإمام قد جرحت ساقه فخرج منها دم، فتفاحش فصلى بالناس من غير وضوء؛ أأصلي وراءه ؟

قــال أبو يوســـف: سبحــــان الله! ألا تصلـــي خلـــف مالك !!.

فهاهـــم علمـــاء الإســلام قد اختلفـــوا قديمــًا وحديثًا في مسائل شتى على أقوال كثيرة.. إلا أنهم أجمعوا ولم يختلفوا على وجوب سلامة الصدر وحفظ الأخوة ولوازمها  وعلى الحرص على جمع كلمة المسلمين  والتخلق بصفات خير المرسلين صلى الله عليه وسلم  مهما اختلفوا في الآراء ، والاجتهادات ، والمواقف العلمية والعملية.

فلنحرص جميعًا على ذلك أشد الحرص ولنقفل منافذ الكيد ومداخل الشيطان التي تستهدف أخوتنا وصفاء قلوبنا كما قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}.