السفر والانتقال والمخالطة يكشف للإنسان كثيرًا من أموره التي كان غافلا عنها ، ويجعله ينظر لعوائده وحياته من منظور مختلف، وزاوية جديدة، و يعطيه مساحة واسعة لمراجعة نفسه، وتطوير أدائه، و قد يكون لذلك في بعض الأحيان تأثير سلبي على المسلم .
إلا أن الحكيم هو من يوازن الأمور ويفرق بين الدين والشرع الذي أمرنا أن نأخذه بقوة واعتصام، وبين العوائد والطبائع التي أمرنا أن لا تكون عائقًا بيننا وبين الحق والعلم .
فينبغي للمبتعث أن لا ينظر لجميع ما لدى الآخرين بعين السخط والعيب، بل يكون كالنحلة لا تقع إلا على الخير، و لا شك أن لدى أهالي تلك الدول من صفات الإنجاز وأخلاق العمل ما يميّزهم عن كثير من المسلمين، جعلهم يتقدمون في سلم العلم والتطور، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها .
ومن الغبن أن يغلق المرء عينيه عن خير يراه أو يجده، لمجرد أنه رآه عند غير مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة في قصة سرقة إبليس من مال الصدقة: (صدقك وهو كذوب) ( البخاري ٢١٨٧).
وقال عن حلف الفضول الذي كان في الجاهلية لنصرة المظلومين وإحقاق الحق : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت) (شرح مشكل الآثار ٥٩٧١، أخبار مكة للأزرقي ٢/٢٥٧)
وإن من أعظم ما يفيد المبتعث النظر بعين العاقل البصير لما عند الغير من صواب وصلاح في طبائع الحياة، وأنماط التفكير، وطرق التعامل، وأساليب التواصل ليأخذها ويستفيد منها، وما عندهم من خطإٍ وانحراف فيحذر منه ويبتعد، أما الانعزال عنهم وعدم مخالطتهم فلا شك أنها تنقص من استفادته وتعلمه وحكمته، وليس المقصد من السفر مجرد اكتساب المعلومات دون غيرها، فإن المنظومة التعليمية والبيئة المنتجة ربما كانت أعظم أثرًا، وأبلغ جدوى وفائدة في حياة المبتعث وتحصيله.