هذا الدليل وأمثاله من الكتب وكذلك فتاوى العلماء والمفتين لا يمكن أن يغطي جميع احتياجات ومسائل وأحوال المبتعث الذي يعيش في تلك البلاد، إذ الحوادث والأحوال لا حصر لها.
والواجب على المسلم إذا عرض له أمر سؤال أهل العلم الموثوقين: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}.
ولكن كيف أتعامل مع الموقف قبل سؤال أهل العلم أو عندما لا أجد إجابة على سؤالي؟
يقول صلى الله عليه وسلم: يا وابصة، استفت قلبك، واستفت نفْسَك ثلاث مرات؛ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك. (حديث صحيح، رواه أحمد 18006 والدارميُّ 2533 وحسنه النووي في المجموع 9/150 )
ومعنى استفتاء القلب هو أنَّ ما حاك في صدر الإنسان فهو إثمٌ ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ وما اطمأنت إليه النفس فهو البر كما في الحديث وليس اتباع الميل والهوى وما فيه حظ للنفس.
متى يحتاج المسلم لاستفتاء قلبه؟
1. عندما لا يجد من يفتيه في المسألة أو لا يمكنه السؤال في تلك اللحظة فإنه يستفتي قلبه.
2. عندما تتعارض لديه الفتاوى من أهل العلم وكلهم موثوق لديه.
3. عندما يجد من يفتي له ممن لا يثق في فتواه المرخصة والمبيحة بدون دليل شرعي فحينها استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك.
قال ابن القيم رحمه الله: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتِي إذا لم تطمئنَّ نفْسُه، وحاكَ في صدره من قَبوله، وتردَّد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: استفتِ نفسكَ، وإن أفتاكَ الناس وأفتَوْكَ، فيجب عليه أن يستفتيَ نفسه أوَّلاً، ولا تُخَلِّصه فتوى المفتي منَ الله، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن قَضَيْتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذْه، فإنما أقطع له قطعة من نار. والمفتِي والقاضي في هذا سواء.
ولا يظن المستفتِي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاكَ في صدره؛ لِعِلْمِه بالحال في الباطن، أو لشكِّه فيه، أو لجهله به، أو لعِلمه جهلَ المفتِي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيّده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخَص المخالفة للسُّنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكونِ النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، سَأَلَ ثانيًا وثالثًا؛ حتى تحصل له الطُّمأنينة، فإن لم يجد، فلا يكلفُ الله نفسًا إلا وُسْعَها والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.
هل ترد فتوى القلب فتوى العالم؟
الواجب على المسلم سؤال أهل العلم والعمل بفتاويهم المعتمدة على الأدلة الصحيحة ولا يرد من ذلك شيئاً بحجة وإن أفتاك الناس وأفتوك فقد قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: هلا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال.
قال ابن رجب رحمه الله: فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرخص الشرعية، مثل الفطر في السفر، والمرض، وقصرالصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال، فهذا لا عبرةَ به .
وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب منْ ذلك، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية، فكرهوه، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم.
وفي الجملة، فما ورد النصُّ به، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.