تكرار العمرة في السفرة الواحدة

اتفق أهل العلم على أن العمرة من أفضل الأعمال وأجلها عند الله, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما" (البخاري 1773, مسلم 1349).

وذهب جماهير أهل العلم إلى مشروعية تكرارها في السنة أكثر من مرة. (رد المحتار 2/472, المجموع 7/149, كشاف القناع 2/520).

وإلى أنها متأكدة في حق كل من يقدم على مكة سواء كان من أهلها أو من غيرهم.

ولكن هل يشرع تكرار العمرة في السفرة الواحدة؟

يحرص بعض الزائرين إلى مكة على تكرار العمرة عن أنفسهم أو بعض أقاربهم, وذلك لخوفهم من عدم القدرة على زيارة مكة مرة أخرى, فما حكم ذلك الفعل؟

 ولتوضيح ذلك يقال:

لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنع من ذلك، بل ورد ما يدل على جواز ذلك بإذنه لعائشة رضي الله عنها بأداء العمرة بعد الحج تطييباً لخاطرها.

قالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله، يرجع الناس بعمرة وحجة، وأرجع أنا بحجة، قال: "وما طفت ليالي قدمنا مكة؟" قلت: لا، قال: "فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم، فأهلي بعمرة, ثم موعدك كذا وكذا" (البخاري 1561, مسلم 1211).

وورد عن عدد من السلف جواز ذلك:

• قال الشافعي: أخبرنا بن عيينة عن ابن أبي حسين عن بعض ولد أنس بن مالك قال: كنا مع أنس بن مالك بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر (مسند الشافعي 778, وعن طريقه البيهقي8730).

• قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أنه سئل عن العمرة بعد الحج أيام التشريق فلم ير بها بأساً وقال: ليس فيها هدي (المصنف 13017).

وليس في أقوال المذاهب ما يمنع تكرار العمرة في السفرة الواحدة, أو يمنع من العمرة بعد الحج إلا:

• ما يفهم من لازم القول المشهور عند المالكية بكراهة العمرة أكثر من مرة في السنة؛ لأنه يكون في سفرة واحدة غالبًا (مواهب الجليل 2/464-465).

• وبعض من حد تكرار العمرة بإمكانية الحلق وليس بالخروج من مكة، كما قال الإمام أحمد: "إذا اعتمر فلا بد من أن يحلق أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس" (المغني  3/220).

وعلى كلٍ فقد حكى غير واحد الاتفاق على أن من كان بمكة فميقاته للعمرة الحل, قال ابن عبد البر: "ولا تصح العمرة عند الجميع إلا من الحل المكي وغير المكي، فإن بعد كان أكثر عملاً وأفضل، ويجزئ أقل الحل وهو التنعيم، وذلك أن يحرم بها من الحل فأقصاه المواقيت وأدناه التنعيم" (الاستذكار 4/115,وانظر: أضواء البيان 4/488).

قول ابن تيمية رحمه الله:

أشهر من نقل عنه عدم مشروعية تكرار العمرة في سفرة واحدة من مكة بالإحرام من الحل هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, بل صرح ببدعيته في موضع، وقال أيضاً بعدم مشروعية العمرة للمكي, وتتابع نقل كثير من أهل العلم عنه.

 قال رحمه الله: "وهذا الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل، فهو يدلّ على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب، بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار، بل الاعتمار حينئذ هو بدعة لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استحبابها، وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء" (مجموع الفتاوى 26/264).

والراجح هو قول جمهور أهل العلم القائل بجواز تكرار العمرة في سفرة واحدة, ولا دليل يمنع من ذلك، وإن كان الإكثار من الطواف أولى من تكرار العمرة .

قال اللخمي: "لا أرى أن يُمنع أحد من أن يتقرب إلى الله بشيء من الطاعات, ولا من الازدياد من الخير في موضع لم يأت بالمنع منه نص" (انظر: مواهب الجليل 2/467).

ومما يدل على ذلك:

1-  حث النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث على العمرة, والندب يراد به الاستكثار من المندوب إليه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (البخاري 1773,مسلم 1349).

قال أبو عمر ابن عبد البر: "لا أعلم لمن كره العمرة في السنة مرارًا حجة من كتاب ولا سنة يجب التسليم لمثلها, والعمرة فعل خير, وقد قال الله عز: }وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون{ فواجب استعمال عموم ذلك, والندب إليه حتى يمنع منه ما يجب التسليم به" (التمهيد 20/21).

2- ثبوت النص الصريح في إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وتوجيهه لها أن تعتمر من التنعيم يدل دلالة صريحة على جواز تكرار العمرة في سفرة واحدة.

ولا يستقيم الاحتجاج:

1- بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله مع القدرة عليه، فلا يصلح دليلاً لعدم المشروعية والجواز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ على الإكثار من العمرة وهي سنة قولية، فتكون أقوى من عدم الفعل, وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض العبادات مع إجماعهم على استحبابها كإجماعهم على استحباب العمرة في رمضان مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها.

2- القول بأنه لم يثبت عن السلف ينقضه ما ثبت عن السلف في ذلك, ومن تلك الآثار:

• قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي حسين عن بعض ولد أنس بن مالك قال: كنا مع أنس بن مالك بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر (مسند الشافعي 778, وعنه البيهقي 8730).

• قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أنه سئل عن العمرة بعد الحج أيام التشريق فلم ير بها بأساً, وقال: ليس فيها هدي. (المصنف 13017).

• عن حصين قال: سألت سعيد بن جبير عن العمرة بعد الحج بستة أيام فقال: "اعتمر إن شئت" (ابن أبي شيبة13020).

• عن ليث عن طاووس أنه سئل عن العمرة فقال: "إذا مضت أيام التشريق فاعتمر متى شئت إلى قابل" (ابن أبي شيبة 12724).

• عن قتادة عن عكرمة قال: "اعتمر ما أمكنك" (ابن أبي شيبة 12726).

فقد ثبت عن بعض من ينهى عن العمرة من مكة أنه جوز ذلك, مما يدل على أن النهي كان على شيء آخر، ولهذا قال طاوس: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون قيل له: فلم يعذبون قال: لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء (المغني 3/220-221).

تذكر

1. الإكثار من العمرة بسفر جديد من أفضل الأعمال عند الله.

2. يجوز على الصحيح تكرار العمرة في السفرة الواحدة، وإن كان الانشغال بالطواف والتعبد في الحرم أولى وأفضل.

3. يحرم للعمرة من كان بمكة من أقرب مكان للحل، سواء كان ذلك التنعيم أو غيره.