ونعني بالآثار الإسلامية الأماكن والبنايات التي حصل فيها أو بقربها أحداث من تاريخنا الزاخر بالبطولات والمواقف, سواء حصل ذلك في عصر النبوة والسلف الصالح أو من بعدهم إلى يومنا, وفي زيارتها مزيد تعرف على قصص السيرة وتفاصيلها والاعتبار والعظة من أحوالهم.
آثار من عصر النبوة:
كغار حراء، وغار ثور، ومواقع الغزوات؛ كغزوة بدر، وأحد، وجبل الرماة، وموضع الخندق، وآثار ذكرت في قصص السيرة؛ كبيرحاء، ونحو ذلك.
آثار إسلامية تاريخية:
كمواقع معارك؛ كمؤتة، واليرموك، وحطين، ونحو ذلك، أو القلاع والأسوار والحصون، أو آثار بناياتهم وحضارتهم؛ كبئر زبيدة بالحجاز في طريق الحجاج، أو قصر الحمراء في الأندلس، ونحو ذلك.
لا يلزم الثبوت القطعي:
ولا يلزم الثبوت القطعي للمكان تاريخياً حتى يمكن زيارته، فيمكن زيارته إذا ظننا أنه الموقع أو ما هو أقل من ذلك، إذ الأصل في الزيارة الإباحة، ولا يترتب على ذلك حكم شرعي.
وإنما نشترط القطع أو غلبة الظن إذا ترتبت أحكام شرعية على المكان, أما في حالتنا فهي زيارة للمكان لفائدة تاريخية أو ثقافية أو نحو ذلك، ولا علاقة للتعبد بها, فعدم الثبوت لا يمنع من الزيارة على الأصل في الإباحة.
ضوابط الزيارة لتلك الأماكن والآثار:
1- أن لا تكون الزيارة على وجه العبادة والتقرب إلى الله، أو يعتقد للمكان فضلاً خاصاً:
فلا يقصد التعبد والتقرب إلى الله بزيارته لتلك الأماكن، وإنما على وجه التنزه والاستطلاع والسياحة والتعلم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى" (البخاري 1139, مسلم 3450) أي: لا يسافر بقصد العبادة والقربة إلا للمساجد الثلاثة، والرِّحَال: جمع رَحْل، وهو للبعير كالسرج للفرس, وهي كناية عن السفر.
فزيارة تلك الآثار تكون في سياق السياحة واستطلاع المعلومات التاريخية والثقافية والحضارية، وليس على وجه العبادة والتقرب إلى الله.
كما أن عليه أن لا يعتقد في المكان فضلاً خاصاً، فإن تشريف المكان والبقعة على غيرها لا يكون إلا بدليل شرعي }وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار{, ولا يؤثر مجرد وقوع الأحداث العظيمة في شرف المكان ورفعته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام، كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر: عرفة ومزدلفة والصفا والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى، مثل جبل حراء، والجبل الذي عند منى الذي يقال: إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك, فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة " (الفتاوى 26/144).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لكن لو أن الإنسان صعد على جبل حراء، أو على جبل ثور من أجل أن يطلع فقط دون أن يتقرب إلى الله بهذا الصعود، فهل ينكر عليه؟
الجواب: لا ينكر عليه، ينكر على الإنسان الذي يذهب يتعبد لله ويتقرب إلى الله بذلك" (اللقاء الشهري رقم65).
زيارة الآثار التاريخية تكون في سياق السياحة واستطلاع المعلومات التاريخية والثقافية وليس على وجه العبادة والتقرب.
2- أن لا يقترن بالزيارة عبادة قولية أو فعلية خاصة:
كتخصيصها بدعاء، أو صلاة ركعتين، ونحو ذلك, فمع أن أصل الدعاء والتنفل بالصلاة مشروع, لكن تقييده أو اعتقاد فضله بمكان محدد لم يرد به الدليل زيادةٌ وابتداعٌ في الدين, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (مسلم 4589).
وروى الطحاوي عن المعرور بن سويد الأسدي بإسناد صحيح قال: وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فلما انصرف إلى المدينة انصرفت معه, فصلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها }أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ{ و}لإِيلافِ قُرَيْشٍ{, ثم رأى أناسًا يذهبون مذهبًا, فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجدا هاهنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "إنما أهلك من كان قبلكم بأشباه هذا, يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا, من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله فليصل فيها ولا يتعمدنها" (مشكل الآثار 12/544).
فلا يشرع مثلاً تخصيص دعاء أو صلاة ركعتين عند زيارة غار حراء أو غار ثور وغير ذلك.
3- أن لا يكون المكان موضعاً ظاهراً لارتكاب وظهور الشركيات والبدع، ولا يمكنه الإنكار:
فإنه ينهى عن زيارته في تلك الحالة حتى ولو كان لا يشاركهم في الشرك والابتداع، وإنما قصده التعرف والاستطلاع والسياحة, فإن قصده لا يسوغ الزيارة مع عدم الإنكار؛ لما يلي:
1- أن في الزيارة تهمة للنفس ونحن مأمورون بدفع التهمة في جميع المجالات:
• كان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه فرُحن (أي: ذهبن) فقال لصفية بنت حيي: لا تعجلي حتى أنصرف معك، وكان بيتها في دار أسامة, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم معها، فلقيه رجلان من الأنصار فنظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجازا, فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "تعاليا. إنها صفية بنت حيي"، قالا: سبحان الله يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئًا" ( البخاري 2038).
• وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب, فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما, فجيء بهما ترعد فرائصهما, فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟" قالا: قد صلينا في رحالنا. فقال: "لا تفعلوا, إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة " (أبو داود 575).
2- لأن زيارته لتلك المواضع مع عدم قدرته على إنكار المنكر فيها نوع إقرار للمنكر، ولا يصدق الإنكار بالقلب إذا لم يخالطه مفارقة للمنكر وأهله مع القدرة على ذلك.
قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.
قال القرطبي رحمه الله: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قومًا يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ}، أي: إن الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم، وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، كما قال: فكل قرين بالمقارن يقتدي، وقد تقدم.
وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى" (أحكام القرآن 5/418).
4- أن لا تكون الزيارة محددة بزمن أو تاريخ معين من كل سنة؛ لأن في ذلك شبهة تعبد واتخاذ المكان عيداً.
وقد نهى أهل العلم عن تخصيص وقت معين لزيارة ما يستحب زيارته اتفاقاً, كما نقل عن الإمام مالك رحمه الله النهي عن زيارة بيت المقدس في وقت محدد لم يرد به دليل.
قال ابن تيمية: "وكذلك نقل عن مالك كراهة المجيء إلى بيت المقدس؛ خشية أن يتخذ السفر إليه سُنَّةً، فإنه كره ذلك لما جعل لهذا وقت معين كوقت الحج الذي يذهب إليه جماعة" (الفتاوى 27/417).
فكيف بما لا يستحب زيارته وإنما على سبيل الاستطلاع والسياحة, فلا يجوز تخصيص زيارته بوقت محدد من كل سنة, مثل أن يكون تاريخ المعركة أو الواقعة التي حصلت في ذلك المكان؛ لما فيه من شبهة التعبد بذلك واتخاذه عيداً زمانياً ومكانياً، مثل أن تخصص زيارة بدر في السابع عشر من رمضان, وهو تاريخ تلك المعركة المباركة, فإن ذلك ذريعة لجعله عيداً مكانياً وزمانياً.
تذكر
1. الآثار التاريخية الإسلامية تزار في سياق السياحة والاكتشاف والتفكر وليس على وجه التعبد والتقرب إلى الله بزيارتها.
2. لا يلزم الثبوت القطعي للمكان تاريخيًا حتى يمكن زيارته.
3. يمنع من زيارة تلك الأماكن في الحالات التالية:
1. إذا اقترن بالزيارة عبادة فعلية أو قولية خاصة.
2. إذا كان المكان موضعًا ظاهرًا لارتكاب الشركيات والبدع ولا يمكنه الإنكار.
3. إذا كانت الزيارة محددة بوقت معين من السنة؛ لأن في ذلك شبهة اتخاذه عيدًا زمانيًا ومكانيًا.