صلاة العشاء في البلاد التي يتأخر فيها مغيب الشفق

الأصل أن وقت العشاء يبدأ من مغيب الشفق كما في الصحيح أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مواقيت الصلاة ؟ فقال: اشهد معنا الصلاة، فأمر بلالا فأذن بغلس، فصلى الصبح حين طلع الفجر، ثم أمره بالظهر حين زالت الشمس عن بطن السماء، ثم أمره بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره بالمغرب حين وجبت الشمس، ثم أمره بالعشاء حين وقع الشفق، ثم أمره الغد فنور بالصبح، ثم أمره بالظهر فأبرد، ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة، ثم أمره بالمغرب قبل أن يقع الشفق، ثم أمره بالعشاء عند ذهاب ثلث الليل أو بعضه (شك حرمي)، فلما أصبح قال: أين السائل؟ ما بين ما رأيت وقت(مسلم 613).

ما هو الشفق؟

وقد اختلف أهل العلم في تحديد الشفق على قولين:

  1. أنه البياض الذي يلي الحمرة، وقال به أبو حنيفة في الرواية المشهورة عنه، ووافقه من اللغويين المبرد وثعلب، ويروى عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم .

  2. أنه الحمرة التي تسبق البياض، وهو مذهب جمهور أهل العلم من الفقهاء واللغويين، فهو مذهب الأئمة الثلاثة، وقول صاحبي أبي حنيفة، ويقال: إن أبا حنيفة رجع إليه، وعليه الفتوى عند الحنفية (انظرالدر المختار 1/390)، وهو قول الخليل والفراء والأزهري وغيرهم من علماء اللغة، وصح عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم؛ كابن عباس وابن عمر وغيرهم (مصنف عبد الرزاق 1/293).

    والراجح أنه الحمرةلثبوته عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم, وموافقته لكلام جمهور أهل اللغة .

    فعن نافع عن ابن عمر قال : الشفق الحمرة(رواه البيهقي في سننه الكبرى1620 وقال : وكذلك رواه عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر موقوفًا, وروي عن عتيق بن يعقوب عن مالك عن نافع مرفوعًا، والصحيح موقوف).

متى ينتهي وقت العشاء؟

ينتهي وقت العشاء بطلوع الفجر عند الجمهور من الحنفية والشافعية, أما المالكية فيرون أن وقتها ينتهي إما بثلث الليل على المشهور عندهم أو منتصف الليل ، وذهب الحنابلة إلى أن لها وقت اختيار ينتهي إما بثلث الليل أو نصف الليل على روايتين ووقت اضطرار ينتهي بطلوع الفجر.

والصحيح أنه لا ينتهي حال الاضطرار إلا بطلوع الفجر لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) (مسلم 681).

وفي هذا دليل على أن أوقات الصلوات يتبع بعضها بعضًا، فإذا خرج وقت صلاة دخل وقت الأخرى، فإذا خرج وقت العشاء دخل وقت الفجر، مما يدل على أنه متصل به، وتحمل أحاديث ثلث الليل ونصف الليل على حال الاختيار.

وعن عائشة قالت أعتم النبي صلى الله عليه و سلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي (مسلم 1477)، وهو يدل على أنه صلى بعد ما ذهب عامة الليل، أي بعد منتصف الليل.

فإذا تأخر مغيب الشفق الأحمر ودخول وقت العشاء تأخرًا غير معتاد كما في بعض دول أوروبا في الصيف؛ فهو وضع  استثنائي غير معهود عند السلف الأوائل ،لأن تلك المناطق ليست مما وصل إليه الفتح الإسلامي فلم يتكلم عنها الفقهاء المتقدمون .. وقد تكلم عنها الفقهاء المعاصرون وناقشتها المجامع الفقهية واختلفت فيها وجهات النظر والاجتهاد .

أحوال تأخر مغيب الشفق:

  1. أن لا ينتهي وقت المغرب إلا بطلوع الفجر فيطلع الفجر والشفق الأحمر لم يغب بعد ،ولا وقت حينئذ للعشاء حسب العلامات التي حددها الشارع ،فهذه الحالة تحمل على حديث الدجال حين يكون مكثه اليوم الواحد كسنة وسؤال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال لا اقدروا له قدره(مسلم 638)

    قال علاء الدين الحصكفـي الحنفـــي: وفاقد وقتهما كبُلْغَار، فإن فيها يطلع الفجر قبل غروب الشفق في أربعينية الشتاء (مكلف بهما فيقدر لهما) ولا ينوي القضاء لفقد وقت الاداء، به أفتى البرهان الكبير وعلق ابن عابدين فقال قوله: (في أربعينية الشتاء) صوابه في أربعينية الصيف (حاشية رد المحتار1/391).

    قال النووي رحمه الله: ومعنى (اقدروا له قدره) أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وإذا مضى بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب، وهكذا حتى ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سَنَة فرائض كلها مؤداة في وقتها، وأما الثاني الذي كشهر والثالث الذي كجمعة فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرناه، والله أعلم(شرح مسلم 9/327).

    وقد اختلف أهل العلم في ضابط التقدير في الحديث هل هو بتقدير الأوقات في مكة أم القرى ، أو بأقرب البلاد إليهم التي تظهر فيها العلامات، أو يقدرونها بالنظر في الأحوال الطبيعية في الأيام المعتادة في بلادهم إن وجدت .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية والمقصود أن في ذلك اليوم لا يكون وقت العصر فيه إذا صار ظل كل شيء لا مثله ولا مثليه ... فكما أن وقت الظهر والعصر ذلك اليوم هما قبل الزوال كذلك صلاة المغرب والعشاء قبل الغروب وكذلك صلاة الفجر فيه تكون بقدر الأوقات في الأيام المعتادة ولا ينظر فيها إلى حركة الشمس لا بزوال ولا بغروب ولا مغيب شفق ونحو ذلك(الفتاوى المصرية 1/29)

  2. إذا كان يتبين وقت العشاء بالعلامات التي وضعها الشارع وهي مغيب الشفق ولكنه يتأخر جدًا بحيث يقترب من الفجر ويشق كثيرًا على الناس عمومًا والطلاب والموظفين خصوصًا ويختلف اختلافًا كبيرًا من شهر لآخر بل من أسبوع لآخر .

فالمسلم حينئذ له حالتان:

الحالة الأولى:

أن يشق عليه الأمر ويجد حرجًا وصعوبة في أداء الصلاة في وقتها مع التزاماته وأعماله ودراسته ونحو ذلك ؛ فيشرع له حين المشقة الجمع بين المغرب والعشاء وتكون المشقة بالنسبة للفرد كما تكون بالنسبة للجماعة في المسجد ونحوه .

فقد ثبت جمع النبي صلى الله عليه وسلم لعذر المطر, وذهب جمع من أهل العلم إلى جواز الجمع للخوف والريح الشديدة أخذًا بقول ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قال أبوالزبير : فسألت سعيدًا لِمَ فعل ذلك ؟ قال سألت ابن عباس كما سألتني فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته(مسلم 705).

وذهب الجمهور لعدم جواز الجمع في غير الأعذار الواردة في السنة؛ لأن المواقيت ثابتة ولا يجوز مخالفتها إلا بدليل خاص، بل قال الترمذي رحمه الله عن سننه: جميع ما في هذا الكتاب معمول به، وقد أخذ به بعض العلماء ما خلا حديثين: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا سفر)، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه) (شرح علل الترمذي 1/17)

والصحيح أن الجمع مشروع  إذا حصل حرج وعنت للمسلم ولم يتخذ ذلك عادة، وهو  قول جماعة  من أهل العلم... فقد ذهب أشهب من المالكية وابن المنذر من الشافعية  وابن سيرين وابن شبرمة  إلى جواز الجمع للحاجة ما لم يتخذ عادة، ويروى قريبٌ من ذلك عن الإمام أحمد فقد أجاز الجمع للحرج والشغل، أخذًًا بعموم قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته.

وعلى هذا  فالأوقات خمسة في حال الاختيار، وثلاثة في حال العذر والمشقة، فيكون وقت الظهر والعصر واحدًا؛ يبدأ من زوال الشمس وينتهي اضطرارًا بغروبها، ووقت المغرب والعشاء واحدًا؛ يبدأ من غروب الشمس وينتهي اضطرارًا بطلوع الفجر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد دل الكتاب والسنــة على أن المواقيـــت خمسـة  في حـــال الاختيار، وهي ثلاثة  في حال العذر، ففي حال العذر إذا جمع بين الصلاتين : بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإنما صلى الصلاة في وقتها، لم يصل واحدة بعد وقتها، ولهذا لم يجب عليه عند أكثر العلماء أن ينوي الجمع، ولا ينوي القصر . وهذا قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في نصوصه المعروفة (الفتاوى21/434).

ولا يلزم المسلم إذا جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم وكان مستيقظًا حال دخول وقت الصلاة العشاء  أن يعيد الصلاة ولا يشرع له ذلك على الصحيح ، ولكنه إن كان يعلم أن لا مشقة عليه بأدائها في وقتها لم يجز له الجمع ويصليها في وقتها لأن الجمع كان للحاجة والعذر ومع عدم الحاجة لا يشرع الجمع.

ضابط المشقة والحاجة:

يختلف الأمر باختلاف الأشخاص وأعمالهم وظروفهم فمن كان يشق ويصعب عليه الانتظار أو الاستيقاظ لأدائها في وقتها ويتعارض ذلك مع متطلبات حياته كالطلاب والموظفين أيام دوامهم وغيرهم ممن يصعب عليه الأمر فيشرع في حقه الجمع .

الحالة الثانية:

أن لا يجد حرجًا ولا صعوبة ويمكنه أداء الصلاة في وقتها بلا كلفة زائدة ..كأن يصلي المغرب ثم ينام ثم يستيقظ لصلاتي العشاء والفجر ؛ فيلزمه حينئذ أداء الصلاة في وقتها ولا يجوز له الجمع لأن الجمع رخصة للحاجة والحرج وهذا يختلف من شخص لآخر  وليس مجرد تأخر الوقت سببًا للجمع ، وليس الجمع عزيمة يفعلها كل الناس ولو لم يكونوا محتاجين لها.

وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي :

فإن مجلس المجمع يرى أن ما ذكر في القرار السابق من العمل بالقياس النسبي في البلاد الواقعة ما بين خطي عرض (48-66) درجة شمالًا وجنوبًا إنما هو في الحال التي تنعدم فيها العلامة الفلكية للوقت، أما إذا كانت تظهر علامات أوقات الصلاة، لكن يتأخر غياب الشفق الذي يدخل به وقت صلاة العشاء كثيرًا، فيرى المجمع وجوب أداء صلاة العشاء في وقتها المحدد شرعًا، لكن من كان يشق عليه الانتظار وأداؤها في وقتها كالطلاب والموظفين والعمال أيام أعمالهم  فله الجمع عملًا بالنصوص الواردة في رفع الحرج عن هذه الأمة؛ ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر فسئل ابن عباس عن ذلك فقال: (أراد ألا يحرج أمته) على ألا يكون الجمع أصلًا لجميع الناس في تلك البلاد، طيلة هذه الفترة، لأن ذلك من شأنه تحويل رخصة الجمع إلى عزيمة، ويرى المجمع أنه يجوز الأخذ بالتقدير النسبي في هذه الحال من باب أولى.

وأما الضابط لهذه المشقة فمرده إلى العرف، وهو مما يختلف باختلاف الأشخاص والأماكن والأحوال.

والمسألة من مسائل الاجتهاد التي  تتعدد فيها أقوال الفقهاء المعتبرين ، ومن اجتهد في تقليد عالم معتبر فهو مأجور على فعله وقد بذل وسعه وأتى بما عليه، وليست محلًا للخصومات والمماحكات بين المسلمين، وضرب الفتاوى بعضها ببعض ، بل ولا محلًا للإنكار إن كان من رأى القول الآخر مجتهدًا عالمًا بالدليل أو مقلدًا لمن يراه الأوثق والأعلم عنده.

قال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال : يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسالة ؟(سير أعلام النبلاء 9/19)

وقال الإمام أحمد رحمه الله: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء ، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا. (سير أعلام النبلاء 11/371).

 

 

تذكر :

  1. شرع الله لنا وقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى منتصف الليل اختياراً وإلى طلوع الفجر اضطراراً.

  2. في البلاد والأوقات التي لا تظهر فيها العلامات الشرعية لأوقات الصلوات فإنهم يقدرونها بحالهم زمن  اعتدال أوقاتهم أو بأقرب البلاد إليهم مما يظهر فيها العلامات الشرعية باعتدال .

  3. إذا كان وقت العشاء يتأخر بدرجة غير اعتيادية  بحيث يقترب من صلاة الفجر فإنه يشرع للمسلم عند المشقة والحاجة جمع صلاة المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير.

  4. لا يجوز على الراجح جمع المغرب والعشاء إذا تبين وقت العشاء ولو كان متأخراً جداً لمن لا يحتاج إلى ذلك ولا يشق عليه أداء الصلاة في وقتها.

  5. من جمع الصلاتين جمع تقديم للحاجة والمشقة ثم دخل وقت العشاء وهو مستيقظ فلا يلزمه الإعادة ولا تشرع له.

  6. المسألة من مسائل الاجتهاد والنظر ، ومن اجتهد في تقليد عالم معتبر فقد بذل وسعه وفعل ما عليه ، ولا ينبغي أن يكون ذلك سبباً للخصومات والقطيعة بين المسلمين.

 

للاستزادة:

صيام من يطول نهارهم جداً

جمع الصلاة للاختبارات

الجمع للبرد وعدم وجود مسجد في المدينة

الجمع بسبب الدوام